كامل النجار في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول التشكيك والإلحاد في الأديان


كامل النجار
الحوار المتمدن - العدد: 3164 - 2010 / 10 / 24 - 13:31
المحور: مقابلات و حوارات     

حاوره : مازن الوراق


من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا – 11 - سيكون مع مع الأستاذ كامل النجار:حول التشكيك والإلحاد في الأديان.
 
1- في جاهلية العرب (مرحلة ما قبل الإسلام) دأبت دوائر الإعلام الإسلامي على تصوير تلك المرحلة بالجهل والإنغلاق والبداوة العنيفة، لتدلل على أن الإسلام كدين هذب تلككم البشر وجعلهم صالحون للتعايش، لكن هناك ما يدل على أن الأمر كان معكوساً، فالظاهرة الدينية في مكة وقريش ظاهرة (منفتحة) وهي ضد إنغلاق الدين الجديد، كيف يمكن أن نفسر الانفتاح الديني (الجاهلي) و الإنغلاق الديني (الإسلامي)؟


_ (الإسلام يُجِبُ ما قبله). هذا الحديث المروي عن محمد بن عبد الله هو الذي يُثبت لنا طبيعة الإسلام الاستقصائية المغلقة. وبما أن كل كتب التراث الإسلامي بدأت بالظهور في القرن الثامن الميلادي وقد كتبها مسلمون كانوا قد عاصروا ظهور الحركات المشككة في مصداقية القرآن مثل المعتزلة والقدرية وغيرهم الذين رءوا أن الإسلام لم يأت بجديد، حاول المؤلفون المسلمون إعلاء الإسلام بتحقير الفترة التي سبقته. ولكن الحقائق التاريخية تقول بغير ذلك. فالعرب، خاصةً القحطانيين في اليمن، قد كانت لهم خضارات عريقة عرفت الكتابة والتأريخ بفترة طويلة قبل الميلاد، وكانوا متمكنين من التكنولوجيا في ذلك الوقت فبنوا سد مأرب والمعابد العديدة، وعبّدوا الطرق وبنوا القصور الشاهقة. ومملكة العرب الأنباط التي كانت عاصمتها "البتراء" ما زالت تحتفظ بآثار تلك الحضارة العريقة التي يستطيع الإنسان مشاهدتها اليوم. وكانت هناك مملكة تدمر في بلاد الشام وكانت على اتصال مع الرومان، وقد هزم ملكها أذينة الفرس. وجاءت بعده الملكة الزباء التي غزت مصر. ولا ننسى مملكة الحيرة الشهيرة التي كانت مركزاً مهماً لتعليم المسيحية. وفي سنة 1962 قامت بعثة أمريكة من المستشرقين الأمريكان، بزيارة مواضع من المملكة العربية السعودية، فزارت "سكاكة" والجوف وتيماء ومدائن صالح والعلا وتبوك، وظفرت بنماذج من فخار قديم، ونقلت صوراً لكتابات ثمودية ونبطية، أهمها الكتابات التي وجدوها في قمة "جبل غنيم" الذي يقع على مسافة ثمانية أميال من جنوب "تيماء".. وقبائل عاد وثمود قد ذكر القرآن في عدة مواضع أنهم كانوا يملكون من التكنولوجيا ما مكنهم من نحت الجبال ليبنوا فيها بيوتاً. والكتابة الثمودية كانت معروفة إلى وقت قريب من ظهور الإسلام.
أما عرب مكة، وخاصةً قبيلة قريش فقد كان همهم التجارة التي برزوا فيها وتواصلوا مع اليمن والحبشة والروم في الشام وتعلموا منهم الكثير ورجعوا بالإماء والعبيد الذين كانوا في أغلبهم مسيحيين. ورغم أن أهل مكة كانوا يعبدون الأصنام إلا أنهم لم يجبروا عبيدهم على عبادتها. وقد كان الغلمان الأحباش يتدارسون الإنجيل فيما بينهم وكان محمد يزورهم ويستمع إلى قصصهم، كما ذكرت كتب التراث. وقد ظهرت في تلك الفترة حركة الأحناف الذين كانوا يؤمنون بالوحدانية لاختلاطهم باليهود والمسيحيين.
وبما أن القبائل العربية العديدة كانت لها أصنامها الخاصة و"كعباتها" العديدة، فقد أيقنوا أن القبائل هذه لن تغيّر آلهتها لإرضاء قريش، وبذا تعلموا التسامح الديني واتفقوا أن تضع كل قبيلة صنمها في الكعبة بمكة، ولم يذكر لنا التاريخ أن حرباً قد نشأت بين القبائل بسبب تعدد الآلهة.
فكل ما كتبه المؤرخون المسلمون عن فترة ما قبل الإسلام كان طمساً للحقائق لأن الإسلام يُجب ما قبله. فعرب ما قبل الإسلام عرفوا الحضارات العديدة وتعاملوا معها وتعلموا التسامح الديني. ولم يكن الدين شغلهم الشاغل ولذلك لم يضيقوا أجواء الحرية على المعتقدات العديدة التي كانت معروفة في ذلك الوقت لأن قريش كان همها منصباً على التجارة وسلامة القوافل، ولذلك عقدوا المعاهدات والأحلاف مع القبائل المختلفة التي كانت تختلف عنهم في الاعتقاد الديني. وقد أظهروا تقدماً في التجارة مكنهم من إنشاء وممارسة عدة أنواع من المشلركات التجارية لم تظهر مثيلاتها في الغرب إلا في عهود متأخرة جداً مثل البيع المؤجل وبيع المزابنة، وهو بيع التمر وهو على رؤوس النخل قبل أن ينضج، وبيع المزايدة، وهو مثل المزاد العلني، وبيع الجملة دون وزن أو كيل، والبيع بالأجل، وهو  أن يبيع التاجر المشتري البضاعة على أن يدفع الشاري ثمنها بعد مدة محددة، والعقود طويلة الأمد، وهي أن يشتري شخص أو شركة محصول حقل معين لعدة أعوام قادمة، كما تفعل شركات السوبرماركت الآن. ولكن الإسلام حرّم أغلب هذه المعاملات كما حرّم الربا.
ولما كان الدين وليد بئته، فقد جاء دين محمد الجديد متسامحاً لأبعد الحدود عندما كان محمد بمكة، فأتى بآيات مثل (لكم دينكم ولي دين). ولكن عندما هاجر إلى المدينة وتقوى بالأنصار أراد أن ينشر دينه الجديد في كل أنحاء الجزيرة العربية ولم يكن أمامه إلا أن يفرضه بالقوة على القبائل العربية الأخرى. ولما كان محمد يعرف أن (حليمة ترجع إلى قديمه)، أصر على محو كل المعتقدات الأخرى حتى لا يرجع العرب إلى قديمهم، فجعل عبادة الأصنام كفراً بواحاً، والمسيحية واليهودية محرفتان، وبذلك يكون الإسلام هو الدين الوحيد. ومن هنا بدأ الإنغلاق والتشدد وعدم الاعتراف بالآخر، وجاء محمد بالآية التي تقول (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه). وزاد رجال الدين الإسلامي فيما بعد على هذا التزمت ونبذ الآخر إرضاءً لرسولهم.

2- من منطلق عدم القناعة أو تشكيك بأديان الوحي (حسب تسمية محمد أركون)، كان هناك نوع من النزوع لدى النخبة العربية في كل المراحل التاريخية المؤسسة للعقل الجدلي، خروح عن (الإيمان) والدخول في (الكفر) بوصفه مجال حيوي، لفاعلية العقل، كيف يمكن النظر إلى مثل هكذا فعاليات متضادة؟


_ العقل البشري لا حدود له إذا تُرك على سجيته، وهو دائماً يتشكك ويبحث عن الإجابات لأسئلته العديدة والمتجددة بحسب تغيير الزمان والمكان. هذا العقل البشري هو الذي جعل المفكرين قبل الميلاد يبحثون في الفلسفة لمعرفة القوانين التي تحكم هذا العالم، فظهر أرسطو وإفلاطون وفيثاغورس وغيرهم من العلماء. وبظهور الأديان السماوية فرض رجال الدين على هذا العقل الثائر المتشكك أن يقبل بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم خلق آدم وحواء في الجنة. ولما ظهر للعقل المتشكك أن الأديان تناقض نفسها وتقول إن الله قد خلق العالم في ستة أيام، وفي نفس الوقت تقول: إن الله إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. فليس من المنطق الذي يمكن أن يقبله العقل البشري أن تكون لذلك الإله تلك المقدرة التي تجعله أن يفكر في الشيء فيقول له كن فيكون، وفي نفس الوقت يشغل نفسه على مدى ستة أيام متتالية في خلق العالم. فلماذا لم يقل له كن فيكون في لحظة واحدة؟
مثل هذه الأسئلة وغيرها جعلت العقل (غير المغسول) يتشكك في سماوية الأديان ويحاول الرجوع إلى حرية التفكير. ينطبق هذا القول بحذافيره على الإسلام الذي علّم أتباعه أن يتفكروا في مخلوقات الله ولا يتفكروا في ذاته، لأن ذاته مموهة وهلامية لا يمكن تحدديها. وبما أن الإسلام انتشر بحد السيف وبدون إقناع، مثل صفية زوجة محمد التي كانت يهودية حتى غزاهم محمد وقتل أباها وزوجها أما عينيها، وفي نفس اليوم أسلمت وتزوجها المنصور بالرعب، كما يقول عنه خليل عبد الكريم. فإن المسلمين الأوائل كانوا يشكون في الإسلام ولكن الخوف جعلهم يعتنقونه. وبمجرد أن مات محمد ارتدت معظم القبائل العربية عن الإسلام ورجعت إلى قديمها كما ترجع حليمة إلى ما تطمئن إليه.
أما النخبة العربية المسلمة فقد كانت تُجاهر بشكها في الإسلام منذ البداية كما فعل كاتب الوحي عبد الله بن أبي السرح، ومعاوية بن أبي سفيان، الذي لم يسلم إلا بعد فتح مكة وأصبح كاتباً للوحي، ثم استعمل المصحف الذي رفعه جيشه على الرماح لخديعة علي بن أبي طالب. وكما فعل الوليد بن يزيد عندما مزق المصحف وقال له
إذا لاقيت ربك يوم حشر *** فقل ياربي مزقني الوليد
وقال كذلك:
 تلاعب بالخلافة هاشميٌ بلا وحي أتاه ولا كتابُ
فقل لله يمنعني طعامي وقل لله يمنعني شرابي
وقال أبو العلاء المعري:
يلينا من قريشٍ كل عامٍ أميرٌ محدثٌ أو مستشارُ
لنا نارٌ نُخوّفها فنخشى وليس لهم، فهل يخشون، نارُ
ثم جاء بعد ذلك المعتزلة في نهاية الدولة الأموية وبداية العباسية فجاهروا بأفكارهم التشككية مما أدى بهم إلى المقاصل لأن رجالات الدين مغسولي العقول لم يستطيعوا مجاراة عقول المعتزلة الحرة. وحدث نفس الشيء في المسيحية عندما عجزت الكنيسة عن مجابهة المفكرين بالمنطق، لجأت إلى محاكم التفتيش لتلجم العقل الحر الذي لا يخشى النار أو العذاب الأبدي الذي يخوفون به العامة، ولا يخافون هم أنفسهم منه، كما يقول أبو العلاء المعري
العقل الحر يرفض أديان الوحي المقيدة لحريته ولذلك يفضل الكفر أو الإلحاد لينزع عنه القيود. فمثلاً في العام 230 قبل الميلاد عندما كانت اليهودية والأديان الوثنية في اليونان تقول إن الأرض مسطحة وإن الشمس تدور حول الأرض، أي كما يقول القرآن (والشمس تجري لمستقر لها)، تمعّن العالم أريستاركوس Aristarchus من علماء جزر أيونيا اليونانية في ظل الأرض على وجه القمر عندما حدث خسوف القمر في ذلك العام، واستطاع أن يستعمل هندسة الجوميتري ليقيس حجم الشمس من قياسه نسبة ظل الأرض على وجه القمر، وأثبت أن الشمس أكبر بمرات عديدة من الأرض، وقال وقتها إن الأجرام الصغرى لابد أن تدور حول الكبرى، وليس العكس. وبذلك أثبت أن الأرض هي التي تدور حول الشمس. وبالضرورة حاربه رجال الدين ورفضوا نظريته. ولذلك ينحو العقل الحر نحو الكفر والإلحاد تفادياً للقيود الدينية، وبما أن النخبة العربية هم أصحاب العقول النيرة، كان نزوعهم إلى الكفر شيئاً طبيعياً.


3- الإسلام الأصولي غالباً ما يحاول أن يجعل من رفض (محمد) للتعدد الديني في الجزيرة العربية وفق مقولته (لا يجتمع في الجزيرة دينان)، قداسويا لاستعداء الاخر، لذا بروز الالحاد كوجهة نظر معبرة عن وجود قيمة عقلية موازية، يصنفها الإسلام الاصولي على أنها حرب شاملة ومفتوحة عليه، كيف ندرج مقولات القرآن عن التسامح بموازرة مقولاته عن القصاص من الملحدين وأصحاب الديانات الاخرى؟


_ كما قلتُ سابقاً فإن محمداً أراد أن يمحو جميع المعتقدات الأخرى من عقول وقلوب أتباعها حتى يكون الإسلام هو الدين الوحيد في الجزيرة العربية، وحتى لا يكون للناس معتقدٌ آخر يرتدون إليه بعد الإسلام، ولذلك جاء بهذا الحديث بعد تصفية اليهود ونفيهم من المدينة. ولولا بقية من الاحترام لأستاذه ورقة بن نوفل الذي علّمه أغلب القصص القرآنية، لقضى على المسيحيين (النصارى) كذلك حتى يخلو الجو للإسلام. وقد استغل رجال الدين الإسلامي هذا الحديث لطرد الأديان الأخرى من الجزيرة ومنع أتباعها من بناء دور للعبادة أو حتى امتلاك كتبهم المقدسة مثل الإنجيل والتوراة. ومع ذلك المنع يطالب المسلمون بالسماح لهم ببناء المساجد والمدارس في بلاد المسيحيين ويعتبرونه حقاً إلهياً لهم دون غيرهم. وكل من يختلف معهم في هذا الشأن فهو في حرب مع الإسلام.
وبما أن الغرب عامةً قد تخطى مرحلة الأديان وأصبح جزء كبير من أهله ملحدين، فقد اعتبر رجال الدين الإسلامي رفض الأديان في الغرب حرباً على الإسلام خاصةً، لخوفهم من انتقال عدوى الإلحاد إلى البلاد الإسلامية. ورغم أن البلاد الغربية قد فتحت أبوابها للمسلمين الهاربين من اضطهاد إخوانهم المسلمين وآوتهم ومنحتهم المنازل والطعام والمدارس والعلاج مجاناً، فإن ذلك لم يشفع لهم عند رجال الدين المسلمين الذين ما زالوا يقسمون العالم إلى فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر.
ولأن الإسلام دينٌ هش لا يتحمل القراءة النقدية، يصبح الحل الوحيد المتاح لرجال الدين الإسلامي للحفاظ على الإسلام هو تخويف الناس بالقتل إذا ارتدوا عن الإسلام وبفرض الجزية علي غير المسلم إذا لم يدخل حظيرة الإسلام
وبما أن الإسلام لا يحترم العقل فإن رجال الدين الإسلامي الذين يهاجمون المسيحية واليهودية كل يوم في قنواتهم الفضائية  وفي مساجدهم ويمنعون المسيحيين من ترؤس المسلمين ومن الانخراط في جيوش البلاد الإسلامية، لا يرون تناقضاً بين أفعالهم وأقوالهم بأنهم يحترمون جميع الأديان. ورجال الدين الإسلامي بالطبع قد تعلموا هذا السلوك من تراثهم الملئ بالدم والقتل واضطهاد الآخر الذي يجدونه في أحاديث محمد. فقد روى ابن عباس عن محمد حديثاً يقول (قريش أهل الله، فإذا خالفتها قبيلة من العرب صاروا حزب إبليس) (الجامع الصغير للسيوطي، ج2، حديث ؤقم 1612). فالذي يخالف قريش يصبح من حزب الشيطان، فما بالك بمن يخالف الإسلام كلياً من الملحدين والمرتدين الذين يستعملون عقولهم فيما يقرؤون ويسمعون.

4- الان تحديدا، تنشأ اصولية مسيحية ممثلة بالرأس الكنسي البابا بنيتدكتوس السادس عشر، في هجومه اللاذع وغير (الاخلاقي) على مفكرين عالميين كبار مثل جوزيه ساراماكو الذي وصفه الفاتيكان يوم موته بالبذرة الفاسدة والمتطرف الشعبوي والملحد عدم الروح، الى جانب ذلك نجد ان البابا الالماني يجعل نزعة (نازية) في تعامله على تصاعد الفكر الالحادي في اوربا، من زيارته الى بريطانيا وحديثه عن بريطانيا (المسيحية) صاحبة الحروب المقدسة، ما الذي يحدث يا ترى في المؤسسة المسيحية لتسير نحو التشدد؟


_ الكنيسة الكاثوليكية كانت طوال تاريخها متشددة ضد العقل وقد أحرقت وقتلت الآلاف من المفكرين بتهمة الهرطقة لأنهم قالوا بما يخالف تعاليم الكنيسة. وفي العصر الحديث عندما ظهرت الشيوعية في روسيا وانتشرت تعاليمها إلى بلاد أخرى مثل الصين وفيتنام وإفريقيا وكوبا، ذعرت الكنيسة الكاثوليكية كما ذعر حكام أمريكا وظهرت حركة المكارثية في أمريكا لمنع انتشار الشيوعية. ولخوف الكنيسة من انتشار الفكر الشيوعي الذي قال إن الدين أفيون الشعوب، لجأت الكنيسة الكاثوليكية إلى زيادة تعصبها واتهمت كل المفكرين الشيوعيين بالهرطقة، وكان من ضمن من طلته بتلك الفرشاة، الروائي البرتغالي الشهير، والشيوعي المتمكن خوزيه ساراماكو الذي كان قد نشر في عام 1991 روايته الشهيرة (رواية الإنجيل حسب يسوع المسيح) مما أغضب الكنيسة، ولذلك وصفه الفاتيكان بعد موته بالبذرة الفاسدة لأنه يؤثر في الشباب.
وتماشياً مع سياسة الكنيسة وخوفها من الشيوعية، تخلى الفاتيكان عن واجبه الأخلاقي في الحرب العالمية الثانية عندما كاد هتلر أن يبيد اليهود الأوربيين، ولاذ بالصمت ولم ينطق ببنت شفه ليدين ذلك الهولوكوست، وكان ذلك مهادنة لهتلر لأنه حاول غزو روسيا وكان الفاتيكان يأمل أن ينجح هتلر في مهمته ويقضي على الشيوعية الروسية. وهي نفس الفكرة التي كان يُعوّل عليها الإخوان المسلمون والشيخ أمين الحسيني عندما زار هتلر وساعده بتجنيد الآلاف من شباب بوسنيا في الجيش الألماني، واحتضنت جماعة الإخوان المسلمين الشيخ الحسيني عندما هرب إلى القاهرة بعد هزيمة هتلر.
والآن بعد أن افتضح تخاذل الفاتيكان عن إدانة الهولوكست، اعتذر البابا جون بول الثاني  من اليهود كما اعتذر من العلماء من أمثال جاليليو. والفاتيكان، كالأزهر، لا يتعلم من التاريخ. وهاهو البابا بنيدكتوس السادس عشر يمتدح تاريخ بريطانيا في الحروب الصليبية ويشدد على أن بريطانيا دولة مسيحية، خوفاً من انتشار الإسلام في أوربا مما قد يؤدي إلى إضعاف المسيحية، وكذلك في محاولة يائسة منه لصرف النظر عن الفضائح الجنسية التي ارتكبها قساوسته في أمريكا وآيرلندا والكنائس الكاثوليكية في بريطانيا. فالكنيسة الكاثوليكية بدأت تشعر بتضييق الخناق عليها في الآونة الأخيرة فحاول البابا اتباع الحكمة التي تقول (خير وسيلة للدفاع هي الهجوم).


5- بالعودة الى الحقبة الاسلامية، يبدو ان اول محاولة لكسر القداسة بسؤال إلحادي مباشر كان عن خلق القرآن، فرضية المعتزلة الكبرى، التي واجهها الأصولي المتشدد ابن حنبل، فيما لاول مرة في تاريخ ولعلها اخر مرة أيضا، تقف المؤسسة السياسية بثقلها الديني الى جانب الفكر في مواجهة الخرافة، برأيك كيف نحلل تلك الظاهرة؟ وكيف ندرس إعادة صياغتها الآن؟  

_ أعتقد أن أول من انتقد القرآن وقال إنه مخلوق كان الجعد بن درهم الذي قال إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً، وبالتالي فإن القرآن مشكوك في صحته ولا يمكن أن يكون أزلياً كالله نفسه، فضحى به خالد القسري والي الخليفة هشام بن عبد الملك بالعراق عام 124 من الهجرة. وأما قصة خلق القرآن التي قال بها المعتزلة فقد كانت بالنسبة لهم مسألة وحدانية، فإذا كان القرآن أزلياً فقد شارك الله في أزليته، وعليه لا بد أن يكون القرآن مخلوقاً. وقد تبنى الخليفة العباسي المأمون هذه الفكرة وأمر كبير قضاته أن يستدعي جميع رجالات الدين ويسألهم إن كان القرآن مخلوقاً أم أزلياً، وكل من يقول أزلياً يُعفي من منصبه الرسمي وتسقط شهادته ويمنع من الفتوى. فاستجاب جميع وعاظ السلاطين للدعوة وقالوا إن القرآن مخلوقٌ، إلا احمد بن حنبل ومحمد بن نوح قالا إنه أزلي.
ثم جاء الخليفة المعتصم بعد المأمون واستمر على منوال أخيه المأمون، واوصي ابنه الواثق بعده أن يستمر كذلك على هذا المنوال ففعل وأمر بامتحان أهل الثغور فقال جميعهم بخلقه إلا أربعة أمر الواثق بقتلهم.
ولم يدم الحال للمعتزلة طويلاً إذ بعد أن انتهت خلافة الواثق وتملك الحكم الخليفة المتوكل، أصبح من يقول بخلق القرآن يقتل، فقتلوا أعداداً كبيرة من المعتزلة وانتهت صولة العقل. فالدولة لم تقف بكل ثقلها مع المعتزلة إلى جانب الفكر إلا في فترة قصيرة جداً من عام 813 هجرية إلى عام 847، أي مدة 34 سنة فقط. والسبب في وقوف الدولة مع العقل هنا كان بسبب أن المأمون كان يعتنق الفكر المعتزلي فأوصى أخاه المعتصم الذي أوصى ابنه الواثق بتلك السياسة. فالدولة الإسلامية في جميع عصورها وقفت مع وعاظ السلاطين ضد العقل لأن مصلحتها مع الوعاظ وليست مع العقل الذي قد يطيح بها وبالدين نفسه.
أغلب الناس يقولون إن التاريخ يعيد نفسه، بينما تقول قلة من الفلاسفة إن التاريخ كالماء الذي يجري تحت الكبري، فذلك الماء لن يرجع رغم أن النهر ما زال يجري تحت الكبري، وكذلك التاريخ لا يرجع. وعليه لا أعتقد تلك الظاهرة يمكن إعادتها في زمننا هذا، خاصة مع ازدياد السلطة الأبوية التي تمارسها مملكة الوهابيين بصرف البترودولارات على كلٍ من يحاول أن يرجعنا إلى العصور الوسطى.